سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم يا محمد: أنا {لا أقول لكم عندي خزائن الله} فآتيكم منها بكل ما تقترحون عليَّ من المعجزات، بل خزائن مقدوراته تعالى في علم غيبه، ليس لي منها إلا ما يُظهره منها بقدرته، {ولا أعلم الغيب} حتى أخبركم بالمغيبات، بل مفاتيح الغيب عنده، لا يعلمها إلا هو، إلا ما يُوحى إليّ منها، {ولا أقول لكم إني ملك} فأستغنى عن الطعام والشراب، أو أقدر على ما يقدر عليه الملك، إن أنا إلا بشر أوحى إليَّ أن أنذركم، فأتبع ما يوحى إليّ؛ وأبترأ من دعوى الألوهية والملكية، وأدعي النبوة التي هي من كمالات البشر.
{قل} لهم: {هل يستوى الأعمى} الذي هو ضال جاهل، {والبصير} الذي هو مهتدٍ عالم، أو: هل يستوي مدعي المستحيل؛ كالألوهية والمَلَكية ومُدَّعي الحق، كالنبوة والرسالة، {أفلا تتفكرون} فتميزوا بين أدعاء الحق والباطل، فتهتدوا إلى اتباع الحق وتجنب الباطل.
الإشارة: ما قالته الرسل للكفار حين اقترحوا عليهم المعجزات، تقوله الأولياء لأهل الإنكار، حيث يطلبون منهم الكرامات، وتقول لهم: إن نتبع إلا ما أمرنا به ربنا وسنّه لنا رسولُنا، فمن اهتدى وتبصر فلنفسه، ومن عمى فعليها.
وقال الورتجبي بعد قوله: {ولا أقول لكم إني مالك}: تواضع صلى الله عليه وسلم حين أقام نفسه مقام الإنسانية، بعد أن كان أشرف خلق الله من العرش إلى الثرى، وأظهر من الكروبيين والروحانيين على باب الله سبحانه، خضوعًا لجبروته، وخُنوعًا في أنوار ملكوته، بقوله: {ولا أقول لكم إني ملك}، وليس لي اختيارٌ في نبوتي، {إن اتبع إلا ما يوحى إليّ}. هل يكون من هذا وصفه، بعد كونه بصيرًا بنور الله، ورأفته به، كالذي عمي عن رؤية إحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى؟ أفلا تتفكرون أن من ولد من العدم بصيرًا بنور القدم، ليس كمن ولد من العدم أعمى عن رؤية عظمته وجلاله. انتهى كلامه.


قلت: الضمير في {به}: يعود على {ما يوحى} وجملة {ليس}: حال من ضمير {يُحشروا}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وأنذر} أي: خوِّف بما أوحي إليك، المؤمنين المقصرين في العمل؛ {الذين يخافون أن يُحشروا إلى ربهم} بالبعث للحساب، حال كونهم في ذلك الوقت {ليس لهم من دونه وليٌّ} ينصرهم من عذابه، {ولا شفيع} يرده عنهم بشفاعته، {لعلهم يتقون} أي: كي يصيروا بإنذارك متقين، وإنما خص الإنذار هنا بالذين يخافون؛ لأنه تقدم في الكلام ما يقتضى اليأس من إيمان غيرهم، فكأنه يقول: أنذر الخائفين؛ لأنه ينفعهم الإنذار، وأعرض عمن تقدم ذكرهم من الذين لا يسمعون ولا يعقلون، أو: أنذر من يتوقع البعث والحساب، أو يتردد فيه مؤمنًا أو كافرًا. قاله البيضاوي.
الإشارة: لا ينفع الوعظ والتذكير إلا من سبق له الخوف من الملك القدير؛ إذ هو الذي ينهضه الخوف المزعج أو الشوق المقلق، وأما من سَوّدت قلبَه الخطايا، وانطبعت في مرآته صور الأشياء، فلا ينفع فيه زاجر ولا واعظ، بل ران على قلبه ما اقترفه من المآثم، والعياذ بالله.


قلت: {فتطردهم}: جواب النفي، و{فتكون}: جواب النهي، أي: ولا تطرد فتكون من الظالمين، فليس عليكم من حسابهم شيء فتطردهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: لنبيه عليه الصلاة والسلام، حين طلب منه صناديدُ قريش أن يطرد عنه ضعفاء المسلمين ليجالسوه، فَهَمَّ بذلك طمعًا في إسلامهم، فنزلت: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم} أي: يعبدونه بالذكر وغيره، أو يدعونه بالتضرع والابتهال، {بالغداة والعشي} أي: على الدوام. وخص الوقتين بالذكر؛ لشرفهما. وفي الخبر: «يا ابنَ آدمَ، اذكُرني أول النهار وآخره، أكفِكَ ما بينهما» وقيل: صلاة الصبح والعصر، وقيل: الصلاة بمكة قبل فرض الخمس.
قال البيضاوي: بعد ما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا أي: على التفسير الثاني في الآية المتقدمة أمره بإكرام المتقين وتقريبهم، وألاَّ يطردَهم، ترضية لقريش، رُوِي أنهم قالوا: لو طَردتَ هؤلاء الأعبُدِ يُعنُون فقراء المُسلِمِينَ، كعمَّار وصُهَيب وخبَّاب وبِلال وسَلمان جلَسنا إليك، فقال: ما أنا بطاردِ المؤمنين قالوا: فأقمهُم عنا، قال: نَعَم رُوِي أن عمر قال له: لَو فَعَلتَ حتَّى تنظرَ إلى ما يَصِيرُونَ؟ قالوا: فاكتُب بِذَلِكَ كِتَابًا، فدَعَا بالصَّحِيفَةِ وبَعَليٍّ؛ ليَكتُبَ، فنزلت. اهـ. وفي ذكر سلمان معهم نظر لتأخر إسلامه بالمدينة.
ثم وصفهم بالإخلاص فقال: {يريدون وجهه} أي: يدعونه مخلصين طالبين النظر لوجهه، وفيه تنبيه على أن الإخلاص شرط من الأعمال، ورتب النهي عليه؛ إشعارًا بأنه يقتضي إكرامهم، وينافي إبعادهم، ثم علل عدم طردهم فقال: {ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم} أي: أنت لا تحاسب عنهم، وهم لا يحاسبون عنك، فلأي شيء تطردهم؟ وقيل: الضمير: للكفار، أي: أنت لا تحاسب عنهم، وهم لا يحاسبون عنك، فلا تهتم بأمرهم، حتى تطرد هؤلاء من أجلهم، {فتكون من الظالمين} بطردهم، لكنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل، فلا ظلم يلحقه في ذلك؛ لسابق العناية والعصمة.
{وكذلك فتنا بعضهم ببعض} أي: ومثل ذلك الاختبار، وهو اختلاف أحوال الناس في أمر الدنيا، {فتنا بعضهم ببعض} أي: ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين، فقدّمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش؛ بالسبق إلى الإيمان {ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} أي: أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق دوننا، ونحن الأكابر والرؤساء، وهم المساكين والضعفاء، فنحن أحق منهم به إن كان حقًا، وهذا إنكار منهم لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير، كقولهم {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ} [الأحقاف: 11]. واللام في {ليقولوا}: للعاقبة. قال تعالى في الرد عليهم: {أليس الله بأعلم بالشاكرين} أي: بمن يقع منهم الإيمان والشكر فيوفقهم، وبمن لا يقع منه فيخذُله.
وبالله التوفيق.
الإشاره: في صحبة الفقراء خيرٌ كثير وسرٌ كبير، وخصوصًا أهل الصفاء والوفاء منهم، وفي ذلك يقول الشيخ أبو مدين رضي الله عنه:
مَا لذّةُ العَيشِ إلاّ صُحبَةُ الفُقَرا *** هُم السّلاَطين والسَّادَاتُ والأُمَرا
فَاصْحَبْهُمُو وتأدَّب في مَجَالِسِهِم *** وخلِّ حظَّكَ مَهمَا خلَّفُوكَ ورَا
إلى آخر كلامه.
فلا يحصل كمال التربية والتهذيب إلا بصحبتهم، ولا تصفوا المعاني إلا بمجالستهم والمذاكرة معهم، والمراد من دخل منهم بلاد المعاني، وحصَّل مقام الفناء في الذات، فالجلوس مع هؤلاء ساعة تعدل عبادة الثقلين سِنين، ومن شأن شيوخ التربية: العطف على الفقراء والمساكين وتقريبهم، ولا يطردون أحدًا منهم ولو عمل ما عمل، اقتداء بما أمر به نبيهم صلى الله عليه وسلم. بل شأنهم الإقبال على من أقبل إليهم، عصاة كانوا أو طائعين وإقبالهم على العصاة المذنبين أكثر، جبرًا لكسرهم، وتألفًا لهم، وسوقًا لهم إلى الله بملاطفة الإحسان. وبالله التوفيق.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12